وعند المساء طلبت من الأخت غيزابيل رئيسة دير جبيل أن أبيت ليلتي قرب الضريح فقالت لي: " إنَّ ازدحام المرضى عليه كثير فلا تستطيعين الرقاد، ففي غير هذه الليلة ترقدين " فقلت عندئذٍ في نفسي: " يا بونا شربل أنت راهب وأنا راهبة وأنت علم أنَّ الراهب ملتزم بالطاعة. إنّي راغبة في قضاء ليلة بالصلاة قرب ضريحك وأرى نفسي أني راقدة على سرير من رفاس في الغرفة المعطاة لي، فعليك إذاً أنت العمل". قلتُ وبتُّ تلك الليلة مع بعض الراهبات الباقيات في عنايا في الغرفة الموما إليها.
وفي صباح اليوم التالي أنزلوني محمولة على كرسي إلى الضريح حيث حضرت تلاوة ثلاثة قداديس، فصليت وتناولت القربان المقدّس. وفي خلال هذا الوقت بدأت أشعر باوجاع في رجليَّ، وبعد مرور نحو ثلاث ساعات عليَّ وأنا أصلّي، طلبوا إليَّ أن أغادر الضريح إلى غرفتي لتناول شيء من الطعام. وكان طعامي في الصباح فنجان قهوة إلى الظهر، فرفضت مغادرة الضريح قبل أن أُشفى. وبعد مرور نصف ساعة حضرت رجال الصحية وأخرجوا المرضى عن القبر لتطهير المكان، فحملني اثنان على كرسي إلى خارج الضريح، فأخذنا نصلي. ولمّا انتهوا من عمل التطهير حملني اثنان إلى القبر فقلت لهما:" أشكركما على صنيعكما معي، وإن شاء الله لا أعذبكما بعد بحملي مرة أخرى لأني سأخرج من القبر ماشية ".
وبينما أنا أصلي أمام الضريح الصلاة العامة التي يرددها المرضى هناك بالتوسل والدموع والإيمان الحي متحدين ومصلين لأجل بعضنا بعضاً، وكان نظري إذ ذاك شاخصاً إلى بلاطة الضريح، وإذا بي أرى اسم الأب شربل المحفور على هذه البلاطة مكللاً بالعرق وكانت نقاط الماء عليه تتلألأ تلألؤاً، فلم أصدق نظري في الأول، فأردت أن أتحقق، فتوكأت على كرسي من جهة ومن جهة ثانية على الحائط وتفرست ملياً فتحققت عندئذٍ ما رأيته وأخذت حالاً منديلاً من جيبي وقلت في نفسي: " إنَّ نقط الماء هذه تخصني وهذه هديةى الأب شربل إليَّ فسأنهذ وأمسحها بمنديلي وأمدُّ بها موضع الوجع " فمسحت هذه النقط فتبلل منها منديلي وأجريت ما قصدته من مسح مكان آلامي بها، ونهضت حالاً على رجليَّ بحضور رفيقاتي الراهبات والجمهور الموجود على الضريح من مرضى وأصحّاء ومشيت، فعندئذٍ بُدىء بالزغردة وقرع الأجراس ابتهاجاً بشفائي وشكراً لله.
ولما خرجت عن القبر لحق بي كل الناس هناك متعجبين من شفائي وممجدين الله. ومن بين هذه الجماهير الغفيرة تقدّم إليَّ السيد ميشيل السروجي من زحلة الذي كانت عقد عموده الفقري مصابة بعطب وشُفي بشفاعة الأب شربل والذي يخدم الآن في دير عنايا، ورفعني على يديه وصاح أمام هذه الجماهير: " انظروا الحامل والمحمول، والويل لمن ليس عنده إيمان ".
دخلنا كنيسة الدير وحضرنا الاحتفال بزياح القربان المقدّس، وكان بين الحاضرين خمسة من الرهبان اليسوعيين: " الأب كابيلو والأب كونسكي مدير جامعة القديس يوسف والأب بشير آجيا والأخ يوسف ماهر والأخ فيليب، فصعد الأب آجيا درجة المذبح وألقى على مسامع الجمهور كلمة وجيزة قصَّ فيها كيفية مرضي وشكر الله تعالى على أعجوبة شفائي بشفاعة الأب شربل داعياً الشعب إلى التمسّك بالدين. وبعد نهاية الطواف بالقربان المقدّس الذي استمر نحواً من ساعتين، طلب مني الدكتور يوسف فرحات طبيب الصحية الذي كان هناك أن أعطيه تقريري ففعلت.
ومما يقضي بالعجب: أني خرجت من دير بكفيا إلى دير عنايا الساعة العاشرة إلا ثلث من يوم الثلاثاء كما مر، وحدثت أعجوبة شفائي يوم الأربعاء 12 تموز في نفس هذه الساعة، أعني الساعة العاشرة إلا ثلث. وعند المساء صعدت إلى محبسة الدير ماشية المسافة التي لا تصلها السيارة ورقدت تلك الليلة هناك وتناولت طعام العشاء في المكان الذي كان يتناول فيه أكله الأب شربل الحبيس.
ولما نهضت عن القبر ماشية كان بقربي من جمهور المرضى رجل من أبناء الشيعة، فصرخ بأعلى صوته قائلاً:" أريد أن أعتنق الدين المسيحي، وتقدَّم مني رجل آخر مصري مبتلى بالصمم وقال لي:" إنك أعطيتني الإيمان، أتيت من مصر لأُشفى من الصمم، فأعطاني ربي البصر للنفس".
الخوارق حول قبر الأب شربل مخلوف
اهتزت جوانب لبنان غبطة وحماساً وفخاراً بما جرى ويجري حتى يومنا هذا من الخوارق حول ضريح الراهب اللبناني الناسك الأب شربل مخلوف، وما زالت الجماهير تتوافد من كافة أطراف العالم على دير مار مارون عنايا قرب جبيل باندفاع وايمان للتبرك من جثمان هذا الرجل البار وطلب شفاعته. ويغص كل يوم، الضريح بجموع المرضى من مخلعين وعميان وعرج وخرس وذوي الصمم وغيرهم من المبتلين بعاهات مستعصية وعلل مزمنة، والكل يذرفون العبرات بحرقة ولوعة ملتمسين الشفاء والتعزية.
ومما استرعى انتباه السلطة الكنسية هناك، منذ وفاة هذا الناسك التقي الورع، الحوادث الخارقة التي جرت على ضريحه. فاخرج جثمانه سنة بعد وفاته أي عام 1899 فوجد سليماً والثياب التي عليه لم يمسها البلى مع أنه كان مدفوناً دون تابوت حسب عادة الرهبان والحبساء وقد غمرت المياه ذلك المكان عدة أشهر. وشاهد الحاضرون جثة الأب شربل تنضح عرقاً هو مزيج من الدم والماء. فوضعت أنئذ في تابوت غطاؤه من زجاج وصمدت في غرفة من غرف الدير السفلي. وخف المؤمنون القاطنون في جوار الدير ليروا هذه الظاهرة العجيبة ويتباركوا من الجثمان.
وفي 4 آذار 1926 تألفت لجنة خاصة، بايعاز من الكرسي الرسولي، للتحقيق والدرس والتدقيق. وبعد أن أتمت مهمتها أمرت بدفن الجثمان عملاً بالأصول القانونية بانتظار حكم مجمع الطقوس المقدس. فدفن الراهب في قبر أعد له بعد أن ألبس الثياب الكهنوتية ووضع على رأسه الاسكيم الرهباني واودع تابوتاً مغلفاً بالحديد المزيبق في الخارج تغليفاً محكماً ومبطناً داخله بالقماش. وسد باب القبر بحجارة عظيمة ورفعت أوراق الدعوى إلى الكرسي الرسولي ليفحص القضية ويبدي رأيه فيها.
وفي أواسط شباط من العام نفسه لمح الزوار الذين كانوا يؤمون ضريح الأب شربل أن الماء ير شح من أسفل الجدار الضخم الواقع فيه القبر. فخشي رئيس الدير أن يكون السيل قد تسرب إلى الضريح ففتحه في 25 شباط بحضور رهبان الدير فلم يجد أثر الرطوبة في الداخل وشاهد التابوت لا يزال موضوع على حجرين عاليين عن حضيض المدفن البلط. بيد أنه وجد الزنك الخارجي بالياً من أسفل ويرشح منه عند رجلي الجثمان مزيج من دم وماء فيصب على مصطبة في القبر للجهة الغربية مسلطة ومنخفضة قدر 4 سنتمترات عن بقية أرض المدفن. ففتح التابوت فوجد جثة الناسك البار لا تزال محفوظة ولكن عرق الدم والماء قد غطاها وقد بلل الثياب الكهنوتية فكان الجثمان في بركة دم وماء. فمسح الرئيس وجه الأب شربل ويديه بمنديل فانطبعت صورة الوجه واليدين على المنديل. فأقفل التابوت وأعلن السلطة الكنسية بما جرى. فأصدرت هذه أمراً جديداً بوجوب التحقيق عن هذه الظواهر العجيبة. فتألفت لجنة من رجال الاكليروس والأطباء لإجراء الفحص القانوني.
في 22 نيسان وصلت اللجنة المعينة إلى دير مار مارون عنايا حيث جثة الراهب شربل مخلوف فوجدوا الجماهير محتشدة وبينهم عدد من المرضى جاؤوا للتبرك أملاص بالشفاء. وبعد أن أقام سيادة المطران عقل القداس أقسم الأطباء المنتخبين للفحص اليمين بأنهم يجرون الكشف معتمدين على وحي الضمير الحي. ثم دخلوا المدفن الذي كان مناراً بالشموع وحوله المؤمنون. وفتح القبر وأخرج الجثمان ونعشه ونقل النعش إلى الكنيسة. وبعد أن أقصيت الجموع بجهود كبيرة باشرت اللجنة الطبية عملها بحضور سيادة المطران عقل وقدس الأب عنداري الرئيس العام للرهبانية البلدية التي ينتمي إليها الناسك البار وبعض رجال الاكليروس. ولوحظ أنه بعض مضي قليل من الزمن ظهرت المياه في المدفن وفي التابوت وعلى زواياه وعلى الصخور المجاورة. ووضع الأطباء تقريرهم وسجلت اللجنة ما رأت ورفع هذا التقرير إلى السلطة الكنسية. ويبدو من أحاديث الأطباء أنهم تحققوا من ظاهرة غير مألوفة في الطب لأن شكل الكاهن المتوفي لا يزال طبيعياً كأنه في اليوم الأول من موته.
وما إن ذاعت أخبار هذه الخوارق حتى بدأت تتقاطر أفواج المؤمنين على مدفن الأب شربل، يصلون من كل حدب وصوب، من الطريق الضيقة ومن الحقول ومن الهضبات ومن الصخور. ومنهم يسيرون حفايا يعلو الوحل أرجلهم حتى الركاب، والمطر يبللهم والتعب ينهكهم وحجارة الشعاب تعرقل سيرهم، ولكنهم يتقدمون بثغور باسمة ومشية نشيطة يحدوهم أمل وثاب وحرارة دافقة. وجلهم يرافق مريضاً يئس الطب من شفائه أو عليلاً يبرح به الداء منذ زمن بعيد. وساحة دير مار مارون وارجاؤه تموج بحشد عرمرم من كل سبط ودين، وكل منطقة ولغة، وكل عمر وطبقة. وحجرة ضريح الكاهن القديس تتدفق بالزوار يمرون أيديهم على النعش وعلى الجدران ويبتهلون من صميم القلوب ويضرعون من أعماق الصدور، والمرضى بينهم يصعدون الزفرات والتنهدات متوسلين طالبين الشفاء بايمان وثقة وإلحاح. فكأن تلك الغرفة المظلمة الضيقة أصبحت ينبوع نور وأمل وسلوان.
ومما يدعو إلى البهجة والارتياح مشهد الناس يتألبون على كراسي الاعتراف ويقبلون بوفرة على مائدة الخلاص، ومنهم من ترك الممارسات الدينية من عهد مديد. وتقام كل يوم عدة زياحات بأيقونة قلب يسوع والعذراء مريم ومار مارون ويصمد القربان المقدس ساعات طويلة ابتهاجاً بالعجائب التي تحدث. فهي، على ما يروى، من كل الأنواع. فهذا كسيح يقوم ويمشي وذاك أعمى يبصر وآخر أخرس أصم يسمع ويتكلم، وهذا يشفى من كسر في كتفه أو التصاق في مفصله أو شلل في أحد أعضائه وذاك يبرأ من عقال أو ذبحة صدرية أو عرق الأنسر.. ولا تفريق بين المذاهب والنحل والطوائف والملل. فالراهب شربل مخلوف يمنح عطاياه بأريحية لا حد لها للكاثوليكي والارثوذكسي والمسلم وغيرهم..
وكأني برائحة القداسة التي عاش فيها هذا الناسك البار وتوفي تعطر بشذاها جو دير مار مارون وجميع الذين يؤمونه بايمان فتنشر بين هذه الجماهير عرفاً فواحاً من التقوى والورع والثقة..
مع تحيات RAMY ADWER
zoserzoro@yahoo.com0123023209