منذ العصور الأولى تستخدم الكنيسة البخور أثناء الصلوات ، وللبخور قيمة عملية فى الصلاة. لذلك أمر الرب موسى أن يعمل مذبحاً للبخور بمواصفات خاصة: "وتصنع مذبحاً لإيقاد البخور. من خشب السنط تصعنه، طوله... وتغشيه بذهب نقى.. وتصنع له إكليلاً من ذهب حواليه.. وتجعله قدام الحجاب.. فيوقد عليه هرون بخوراً عطراً كل صباح... وحين يصعد هرون السرج فى العشية يوقده. بخوراً دائماً أمام الرب فى أجيالكم. لا تصعدوا عليه بخوراً غريباً، ولا محرقة أو تقدمة. ولا تسكبوا عليه سكيباً، ويصنع هرون كفارة على قرونه مرة فى السنة" (خر 1:30-10).
أما البخور المستخدم فى الصلاة والعبادة؛ فأيضاً كانت له مواصفات خاصة وله قدسية خاصة، حتى أنه لا يجوز الإنسان أن يصنع مثله أو يستخدمه فى منزله.. وقال الرب لموسى: "خذ لك أعطاراً. ميعة وأظفاراً وقنة عطرة ولباناً نقياً. تكون أجزاء متساوية؛ فتصنعها بخوراً عطراً صنعة العطار مملحاً نقياً مقدساً، وتسحق منه ناعماً، وتجعل منه قدام الشهادة فى خيمة الاجتماع حيث اجتمع بك. قدس أقداس يكون عندكم. والبخور الذى تصنعه على مقاديره.
لا تصنعوا لأنفسكم مثله بل يكون عندك مقدساً للرب. كل من يصنع مثله ليشمه يقطع من شعبه" (خر 34:30-38).
تاريخ استخدام البخور :
1- "منذ البدء نسمع عن نوح أنه بنى مذبحاً وأصعد محرقات فتنسم الرب رائحة الرضا" (تك 21:
، لعل عبارة "تنسم الرب رائحة الرضا" هى أول إشارة للبخور فى تاريخ الإنسان... حيث صاحب تقديم الذبيحة، رائحة عطرة من أدهان الذبيحة ودخان حريقها.. اشتمه الرب كرائحة بخور يرضى عنها.
2- استخدمته الشعوب الوثنية فى عباداتهم المنحرفة "وأبطل من موآب يقول الرب من يصعد فى مرتفعة ومن يبخر لآلهته" (أر 35:48)، "وأقيم دعواى على كل شرهم، لأنهم تركونى وبخروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم" (أر 16:1)، "آثامكم وأثام آبائكم معاً قال الرب الذين بخروا على الجبال" (أش 7:65)، "ذهبوا من أمامهم يذبحون للبعليم، و يبخرون للتماثيل المنحوتة" (هو 2:11).
ومن الملاحظ هنا أن الله لم يعترض على البخور، ولكنه أعترض على التبخير لآلهة غريبة؛ فالبخور فى ذلك - شأنه شان باقى الوسائط العبادية من ذبائح وصلوات وأصوام وأعياد وغيره - استخدمتها الشعوب استخداماً منحرف لعبادة المخلوق دون الخالق.. وطبيعة الأمر أن استخدامها لهذه الوسائل لا يصبغها بالصبغة الوثنية.. فليست الصلوات تراثاً وثنياً لأن الوثنيين صلوا، وكذلك الأصوام ولا الكنائس لأنهم بنوا معابد، وأيضاً ليس البخور
عملاً وثنياً..
3- قننه الله فى عهد موسى النبى للإستخدام المقدس داخل خيمة الاجتماع فى عهد موسى النبى، كما قرأنا فى مقدمة هذا المقال، واستمر الوضع هكذا فى الهيكل أيضاً بعد بنائه فى عهد سليمان الحكيم.. حتى أننا رأيناه فى الهيكل قبيل ولادة السيد المسيح فى قصة زكريا الكاهن "فبينما هو يكهن فى نوبة فرقته أمام الله، حسب عادة الكهنوت، أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب ويبخر... فظهر له ملاك الرب واقفاً عن يمين مذبح البخور" (لو 8:1-11).
4- قدمه المجوس للرب يسوع المولود ضمن هداياهم النبوية والرمزية، حيث فسر الآباء أن الذهب كان رمزاً لملكوته، والمر رمزاً لآلامه وموته، أما البخور (اللبان) فكان إشارة لكهنوته وألوهيته "ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا: ذهباً ولباناً ومراً" (مت 11:2).
5- رأينا حتى الآن أن البخور استخدم فى العبادة الإلهية من عهد موسى النبى حتى زكريا والد يوحنا المعمدان.. وفى نفس الأثناء كان هناك وثنيون يستخدمون نفس البخور فى عبادة منحرفة.. ما الذى يميز البخور الإلهى عن البخور الوثنى؟
أولاً: أنه يقدم لإسم الرب.
ثانياً: أنه يقدم فى أورشليم فى الهيكل وليس خارجه..دعنا الآن نتساءل عما فيهما يتنبأ ملاخى النبى...
"لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها إسمى عظيم بين الأمم، وفى كل مكان يقرب لإسمى بخور، وتقدمة طاهرة، لأن إسمى عظيم بين الأمم قال رب الجنود" (ملا 11:1) لاحظ ما تحته خط (كل مكان، الأمم).. هل يتكلم عن بخور (لإسمى) إسم الرب.. فهل هو البخور اليهودى؟ أيضاً لا.. لأنه يتكلم عن (الأمم)..
أنه هنا يتكلم بروح النبوة عن البخور المسيحى أى يقدم فى كل مكان لإسم الرب، وليس فى أورشليم فقط أو للأوثان.
6- رأينا فى تسلسل التاريخ أن هناك بخوراً أيام نوح وبخوراً أيام موسى وهارون ثم بخوراً أيضاً فى المسيحية.. فهل هناك بخور فى السماء؟ هذا ما يشرحه القديس يوحنا الرائى إذ رأى أربعة وعشرون قسيساً فى السماء "ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوءة بخوراً هى صلوات القديسين" (رؤ 7:5)، وكذلك رأى ملاكاً آخراً جاء "ووقف عند المذبح ومعه مبخرة من ذهب وأعطى بخوراً كثيراً لكى يقدمه مع صلوات القديسين جميعهم على مذبح الذهب الذى أمام العرش فصعد دخان البخور مع صلوات القديسين من يد الملاك أمام الله" (رؤ 3:8-4).
إذا فالبخور مستخدم فى عبادة الله منذ البداية وإلى الآن... والسؤال الذى يطرح نفسه الآن...
لماذا البخور ؟
1- الإيحاء بحضور الله فى الكنيسة "مادام الملك فى مجلسه أفاح ناردينى رائحته" (نش 12:1). وسحابة دخان البخور تشير إلى أن الله محتجب وغير مرئى.. كما حدث وقت تدشين هيكل سليمان وكان لما خرج الكهنة من القدس، أن السحاب ملأ بيت الرب. ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب؛ لأن مجد الرب ملأ بيت الرب. حينئذ تكلم سليمان: "قال الرب أنه يسكن فى الضباب" (1مل 10:8-12) إنه يسكن فى الضباب بمعنى أنه غير مرئى وغير مفحوص وغير مدرك.. لذلك عندما ترتفع سحابة البخور بالكنيسة فأنها تنبه أذهاننا إلى حضور الله غير المرئى وسطنا ويصلى الكاهن فى سر بخور عشية قائلاً: "أيها المسيح إلهنا العظيم المخوف الحقيقى الإبن الوحيد وكلمة الله الآب طيب مسكوب هو اسمك القدوس، وفى كل مكان يقدم بخور لإسمك القدوس صعيدة طاهرة".
2- شغل حواس الإنسان بالعمل الروحى.. فلا نكتفى فقط بصلاة العقل بلا تنشغل العيون بالأيقونات البديعة، وتنشغل الآذان بالألحان الشجية والموسيقى الروحية، كما الأنوف برائحة البخور العطرة.. فيرتفع القلب فى هذا الجو الروحى ليسكن السماويات.
3- والبخـور فـى الكنيسـة يشـرح ويعبـر عـن روح الصلاة.. فالإنسان فى ذبيحـة التسبيـح يقـدم أفخـر ما لديه: الجهد والوقت والحب... ويطرحها فى حب وتسليم تحت قدس المسيح كالبخور الذى يطرح على الحجر؛ فتتصاعد روائح عطرة تملأ الكون الفسيح برائحة المسيح الذكية "لتستقم صلاة كالبخور قدامك" (مز 2:141)، والكاهن فى سر بخور عشية يصلى قائلاً: "نسألك يا سيدنا أقبل إليك طلباتنا ولتستقم أمامك صلاتنا مثل بخور"، "نطلب إليك يا محب البشر أن تستنشق طلباتنا التى نقدمها لك مع البخور مثل ذبيحة نوح".
4- وسفر الرؤيا يكشف لنا عن ارتباط البخور بصلوات القديسين (رؤ 8:5، 3:8،4)؛ لذلك كلما ارتفع البخور بالكنيسة يرتل الشعب ذكصولوجيات وتسابيح خاصة بالقديسين، لنتشارك معاً فى الصلاة والتسبيح والفرح بالسيد المسيح "من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر" (نش 6:3).
5- يرمز البخور أيضاً إلى التطهير من الخطية، وإلى التوبة ورائحة القداسة والبر.. وهذا تعلمناه من قصة حدثت فى العهد القديم حيث تذمر الشعب فأصيبوا بالوباء.. "ثم قال موسى لهرون خذ المجمرة وأجعل فيها ناراً من على المذبح وضع بخوراً وأذهب بها مسرعاً إلى الجماعة، وكفر عنهم لأن السخط قد خرج من قبل الرب. قد ابتدأ الوباء؛ فأخذ هرون كما قال موسى وركض إلى وسط الجماعة وإذا الوباء قد ابتدأ فى الشعب؛ فوضع البخور وكفر عن الشعب. ووقف بين الموتى والأحياء؛ فامتنع الوباء" (عد 41:16-50).
ولعل هذه القصة هى السر فى أن أبونا يأخذ الشورية ويبخر بها بين الشعب فى الكنيسـة... إنهـا لحظات
تطهيرية؛ لذلك يقـف الشعـب وينحنـى برأسـه ويعترف سراً بخطاياه ويعود أبونـا إلـى الهيكل ليصلى (سر إعتراف الشعب)، وفى صلاة بخور باكر يقول أبونا: أقبل إليك هذا البخـور مـن أيدينا نحن الخطاة رائحـة بخـور غفرانـاً
لخطايانا مع بقية شعبك.
ولعل إشارة البخور إلى التطهير تفسر لماذا يبخر الكاهن يديه قبل أن يمسك القربانة فى القداس.
6- والبخور أيضاً هو شركة مع السمائيين الذين يرفعون أمام الحى إلى الأبد الآبدين.. لذلك عندما يرتل الشعب لحن (أجيوس) قبل أوشية الإنجيل يمسك أبونا الشورية ويضع بها يد بخور ويقف أمام باب الهيكل يبخر.. مشاركاً بذلك السمائيين فى تسبيحهم وبخورهم.
7- أخيراً يجب أن نعرف أن التبخير فى الكنيسة هو عمل كهنوتى لا يجوز للشماس أو الشعب أن يقوم به، فعندما تجرأ قوم قورح وداثان وابيرام وقدموا بخوراً للرب "خرجت نار من عند الرب وأكلت المئتين والخمسين رجلاً الذين قربوا بخوراً" (عد 35:16)، "تذكاراً لبنى إسرائيل؛ لكى لا يقترب رجل أجنبى ليس من نسل هرون ليبخر بخوراً أمام الرب فيكون مثل قورح وجماعته" (عد 40:16).
وقيل كذلك عن عزيا الملك أنه "لما تشدد، ارتفع قلبه إلى الهلاك وخان الرب إلهه، ودخل هيكل الرب ليوقد على مذبح البخور، ودخل وراءه عزريا الكاهن ومعه ثمانون من كهنة الرب بنى البأس. وقاوموا عزيا الملك وقالوا له: ليس لك يا عزيا أن توقد للرب، بل للكهنة بنى هرون المقدسين للإيقاد. أخرج من المقدس لأنك خنت، وليس لك من كرامة من عند الرب الآله. فخنق عزيا وكان فى يده مجمرة للإيقاد، وعند خنقه على الكهنة خرج برص فى جبهته أمام الكهنة، فى بيت الرب بجانب مذبح البخور.. فطردوه من هناك.." (2أخ 16:26-23).
ونال بذلك جزاءً تعديه وعدم احترامه للعمل الكهنوتى.
"شكراً لله الذى يقودنا فى موكب نصرته فى المسيح كل حين، ويظهر بنا رائحة معرفته فى كل مكان لأننا رائحة المسيح الزكية لله" (2كو 5:14).
"قد جعلت ذاتى كنيسة للمسيح، ومرتب له داخلها بخور أو طيب بأتعاب جسدى" (مار افرآم السريانى).
مع تحيات RAMY ADWER
ZOSERZORO@YAHOO.COM0123023209